فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (13- 14):

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}
قلت: توحيد الضمير في {نُدخله} مراعاة للفظ {من}. وجمع الحال في {خالدين} مراعاة للمعنى. و{خالدين} و{خالدًا}: حال مقدرة من ضمير {نُدخله}، كقولك، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، وليسا صفتين لجنات ونارًا، وإلا لوجب إبراز الضمير؛ لأنهما جرتا على غير مَنْ هُمَا له.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {تلك} الأحكام التي شرعناها لكم في أمر الوصايا والمواريث، هي {حدود الله} حدَّها لكم لتقفوا معها ولا تتعدوها {ومن يطع الله} فيما أمر به وحدّه {ورسوله} فيما شرَّعه وسنَّه {ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز} أي: الفلاح {العظيم}، {ومن يعص الله} فيما أمر ونهى، {ورسوله} فيما شرعه، {ويتعدّ حدوده} التي حدها، فتجاوز إلى متابعة هواه، {ندخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين}. وهذا إذا أنكر مشروعيتها فيكون كافرًا، وإلاَّ كان عاصيًا في حكم المشيئة، ومذهب أهل السنة أنه لا يخلد، وحملوا الآية على الكافر، أو عبارة عن طول المدة، كما في قاتل النفس. والله أعلم.
الإشارة: قد حدَّ الحق جل جلاله لأهل الشريعة الظاهرة حدودًا قام ببيانها العلماء، وحدَّ لأهل الحقيقة وهي سر الولاية حدودًا، قام بها الأولياء، فمن قام بحدود الشريعة الظاهرة كان من المؤمنين الصالحين، ومن تعداها كان من العاصين الظالمين، ومن قام بحدود الحقيقة الباطنية، وصحب أهلها كان المحسنين العارفين المقربين، ودخل جنة المعارف، ومن تعدَّ حدود الحقيقة، أو لم يصحب أهلها كان من عوام أهل اليمين، وله عذاب الحجاب في غم الحساب، وقال في الحاشية: في حد حدوده إشارة للعبودية، في إخراج كل عن نظره واختياره، ثم انقياده وذلته لحكم ربه، والوقوف عند حدوده.
وقال الورتجبي: قيل: {تلك حدود الله} أي: الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها، فإن التعدي فيها يهلكهم، وقال أبو عثمان: ما هلك امرؤ لزم حده ولم يتعد طوره. اهـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآيات (15- 16):

{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} النساء {اللاتي يأتين الفاحشة} أي: الزنى، سُمِّيَ فاحشة لفُحش قبحه وبشاعة فعله شرعًا، {من نسائكم} المسلمات، {فاستشهدوا عليهن} أي: اطلبوا مَنْ رَمَاهُنَّ بذلك أن يُشْهِدوا {عليهن أربعة منكم}، أي: من عدول المؤمنين يرونهما كالمرود في المكحلة، وإنما جعلوا أربعة مبالغة في الستر على المؤمن، أو ليكون على كل حال واحد اثنان، {فإن شهدوا} عليهن بذلك {فأمسكوهن في البيوت}، واجعلوه سجنًا لهن {حتى يتوفاهن الموت} أي: يستوفي أجلّهن الموتُ، أو يتوفاهن ملك الموت، {أو يجعل الله لهن سبيلاً} كتعيين الحد المخلّص من السجن، وكان هذا في أول الإسلام ثم نُسخ بما في سورة النور من الحدود، ويحتمل أن يراد التوصية بإمساكهن بعد أن يُجلدن كي لا يَعُدْن إلى الزنى بسبب الخروج والتعرض للرجال.
واكتفى بذكر حدِّهن، بما في سورة النور، وهذا الإمساك كان خاصًا بالنساء بدليل قوله: {واللذان يأتيانها منكم} أي: الزاني والزانية منكم، {فآذوهما} بالتوبيخ والتقريع {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} أي: اقطعوا عنهما الأذى، أو أعرِضوا عنهما بالإغماض عن ذكر مساوئهما.
قيل: إن هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً، وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد، وقيل، الحبس في المساحقات، والإيذاء في اللواطين، وما في سورة النور في الزناة. والذي يظهر. أن الحكم كان في أول الإسلام في الزنا: الإمساك للنساء في البيوت بعد الإيذاء بالتوبيخ، فتُمسك في بيتها حتى تموت، أو يجعل الله لها سبيلاً بالتزوج بمن يعفها عنه. والإيذاء للرجال بالتعيير والتقريع والتحجيم حتى تتحقق توبته، ثم نسخ ذلك كله بالحدود، وهو جَلْد البكر مائة وتغريبة عامًا ورجم المحصن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد، إذا طَغَتْ عليه نفسُه، وأرادت ارتكاب الفواحش، أن يستشهد عليها الحفظة، الذين يحفظون عليه تلك المعاصي، فإن لم تستحِ، فليعاقبها بالحبس في سجن الجوع والخلوة والصمت، حتى تموت عن تلك الشهوات، أو يجعل الله لها طريقًا بالوصول إلى شيخ يُغيِّبه عنها، أو بوارد قوي من خوف مزعج أو شوق مقلق، فإن تابت وأصلحت، أعرض عنها واشتغل بذكر الله، ثم يغيب عما سواه. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (17- 18):

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إنما التوبة} التي يُستحق {على الله} قبولُها فضلاً وإحسانًا هي {للذين يعملون السوء} أي: المعاصي متلبسين {بجهالة} أي: سفاهة وجهل وسوء أدب، فكل من اشتغل بالمعصية فهو جاهل بالله، قد انتزع منه الإيمان حتى يفرغ، وإن كان عالمًا بكونها معصية، {ثم يتوبون} بعد تلك المعصية {من قريب} أي: من زمن قريب، وهو قبل حضور الموت؛ لقوله بعدُ: {حتى إذا حضر أحدهم الموت}، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله يقبلُ توبةَّ العبْدِ مَا لمْ يُغَرْغِرُ» وإنما جعله قريبًا لأن الدنيا سريعة الزوال، متاعها قليل وزمانها قريب، {فأولئك يتوب الله عليهم} تصديقاً لوعده المتقدم، {وكان الله عليمًا} بإخلاصهم التوبة، {حكيمًا} في ترك معاقبة التائب، إذ الحكمة هي وضع الشيء في محله.
وعن الحسن: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لما أُهبط إبليسُ قال: وعزتك وعظمتك لا أفارق ابنَ آدم حتى تفارقَ روحُه جسدَه، قال الله تعالى: وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها» وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الشيطانَ قال: وعزتِك لا أبرح أُغوى عبادكَ، ما دامتْ أرواحهم في أجسادهم. قال الله تعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني».
قال ابن جزي: وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها، فيُقطع بقبول توبت عند جمهور العلماء. وقال أبو المعالي: يَغُلِب ذلك على الظن ولا يقعطع. اهـ.
{وليست التوبة} مقبولة {للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت} أي: بلغت الحلقوم {قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار} فلا توبة لهم، {أولئك أعتدنا} أي: أعددنا وهيأنا {لهم عذابًا أليما}، قال البيضاوي: سوَّى الحقُ تعالى بين من سوَّف التوبة إلى حضور الموت من الفسقة، وبين من مات على الكفر في نفي التوبة؛ للمبالغة في عدم الاعتداد به في تلك الحالة، وكأنه يقول: توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء. وقيل: المراد بالذين يعملون السوء: عصاة المؤمنين، وبالذين يعملون السيئات: المنافقون؛ لتضاعف كفرهم، وبالذين يموتون: الكفار. اهـ.
الإشارة: توبة العوام ليست كتوبة الخواص، إنَّ الله يمهل العوام ترغيبًا لهم في الرجوع، ويُعاقب الخواص على التأخير على قدر مقامهم في القرب من الحضرة، فكلما عظُم القربُ عظمت المحاسبة على ترك المراقبة، منهم من يسامح له في لحظة، ومنهم في ساعة، ومنهم في ساعتين، على قدر المقام، ثم يُعاتبهم ويردهم إلى الحضرة.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته: {إنما التوبة على الله} أي: إنما الهداية بعد الذلة، على الله؛ لأنه الذي يُخلص من قَهْره بكرمه الفياض وبرحمته التي غلبت غضبه، كما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعَام: 54]، ونبه على وقوع الذنب بهم قهرًا، ثم تداركهم بالهداية والإنابة، فضلاً على علمه بتربيتهم وتدريجهم لمعرفته بالعلم والحكمة بقوله: {وكان الله عليمًا حكيمًا}.

.تفسير الآية رقم (19):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)}
{يَا أَيُّهَا ألَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ...}
قلت: أصل العضل: التضييق، يقال: عضلَت الدجاجة ببيضها إذا ضاقت، ثم أُطلق عُرفًا على منع المرأة من التزوج.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا} لا يحل لكم أن تمنعوا النساء من النكاح لترثوا ما لهن {كرهًا}. قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل، وله امرأة كان قريبه من عصبته أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوجها من غير صداق، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يُعطها شيئًا، وإن شاء عَضَلهَا وضيَّق عليها لتفتدى منه بما ورثت من الميت، أو تموت فيرثُها، وإن ذهبت إلى أهلها قبل أن يُلقِيَ وليُّ زوجها ثوبَه عليها فهي أحق بنفسها. فكانوا على ذلك في أول الإسلام، حتى توفي أبو قَيس بن الأَسْلتَ الأنصاري، وترك امرأته كبشة بنت معن الأنصارية، فقام ابنٌ له من غيرها فطرح ثوبه عليها، تم تركها ولم يقربها، ولم ينفق عليها، يضارّها لتفتدى منه، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إن أبا قيس تُوفي ووَرِثَ نكاحي ابنُه، وقد أضرَّ بي وطوّل عليّ، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي، ولا يخلي سبيلي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «اقعدي في بيتك حتى يأتَي فيك أمرُ الله» قالت: فانصرفتُ وسمعت بذلك النساءُ في المدينة فأتين النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ، فقلن: يا رسول الله: ما نحن إلا كهيئة كبشة، غير أنه لا ينكحنا الأبناء، ونكَحَنا أبناء العَم، فنزلت الآية. فمعنى الآية على هذا: لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يُورثن عن الرجال كما يُورث المال.
وقيل: الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة في العصمة ليرثوا مالها، من غير غبطة بها، وإنما يمسكها انتظارًا لموتها، وقيل: الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوج ليرثوهن دون الزوج.
{ولا} يحل لكم أيضًا أيها الأزواج أن {تعضلوهن}، أي: تحبسوهن؛ من غير حاجة لكم فيهن؛ {لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} من الصداق افتداء فيه بإضراره. قال ابن عباس رضي الله عنه: (هي أيضًا في الأزواج الذين يمسكون المرأة ويُسيئُون عشرتها حتى تفتدى بصداقها)، {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}، كالنشوز وسوء العشرة وعدم العفة، فيحل له حينئِذ حبسها حتى تفتدى منه بصداقها، فيأخذه خلعًا على مذهب مالك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يحل للمريد أن يُضيق على نفسه تضييقاً يُفضي إلى العطب، فالنفس كالبهيمة: علفها واستخدامها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا يكن أحدُكُم كالمنبت، لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى».
فبعض الناس يسمعون أن من ضيَّق على نفسه أورثته العلوم، فيضيق عليها تضييقًا فاحشًا ليرث ذلك منها كرهًا، وإنما يمنعها من شهواتها الزائدة على قيام البنية، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، بحيث تطغى عليها، فيضيق عليها بما لا يُفضي إلى الهلاك، وهذا كله إنما ينفعه إذا صح مِلْكُه لها بالعقد الصحيح من الشيخ الكامل، وإلاَّ كان تعبه باطلاً، كمن يريد أن يرى امرأة غيره أو دابة غيره. والله تعالى أعلم.
ثم أمر الحق تعالى بحسن العشرة مع النساء، فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}
يقول الحقّ جلّ جلاله: وعاشروا النساء {بالمعروف} بأن تلاطفوهن في المقال وتجملوا معهن في الفعال، أو يَتَزَيَّنُ لها كما تتزين له. قال الورتجبي: كونوا في معاشرتهن في مقام الأنس وروح المحبة، وفرح العشق حيث أنتم مخصوصون بالتمكين والاستقامة والولاية، فإن معاشرة النساء لا تليق إلا في المستأنس بالله، كالنبي صلى الله عليه وسلم وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم عن كمال مقام أُنْسِه بالله ورؤيته لجمال مشاهدته حيث قال: «حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثَلاث: الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة».
ثم قال: عن ذي النون: المستأنس بالله يستأنس بكل شيء مليح ووجه صبيح، وبكل صوت طيب وبكل رائحة طيبة، ثم قال: عن ابن المبارك: العشرة الصحيحة: ما لا يورثك الندم عاجلاً ولا آجلاً، وقال أبو حفص: المعاشرة بالمعروف: حسن الخلق مع العيال فيما ساءك. اهـ.
{فإن كرهتموهن} فاصبروا {فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} إما ولدًا صالحًا أو عاقبة حسنة في الدين. قال ابن عمر: إن الرجل يستخير الله فيخار له فيسخط على ربه، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. اهـ. حكى أن أبا الإمام مالك رضي الله عنه تزوج امرأة فدخل عليها فوجدها سوداء، فبقي متفكرًا ولم يقربها، فقالت له: هل استخرت ربك؟ فقال: نعم، فقالت: أتَتَّهمُ ربك، فدخل بها، فحملت بالإمام مالك صاحب المذهب. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرك مؤمنٌ مَؤمنة أي: لا يُبْغِضها إن سخط منها خُلقَا رضي منها آخر» قال الورتجبي: قيل: غيب عنك العواقب؛ لئلا تسكن إلى مألوف، ولا تفر من مكروه.
الإشارة: إذا طهرت النفس من البقايا، وكملت فيها المزايا، وانقادت بكليتها إلى مولاها، وجب الإحسان إليها والصلح معها ومعاشرتها بالمعروف، فإنما تجب مجاهدتها ما دامت كافرة فإذا أسلمت وانقادت وجب محبتها والإحسان إليها. فإن كرهتها في حال اعوجاجها فجاهدتها ورضتها حتى استقامت كان في عاقبة ذلك خيرٌ كثير، وعادت تأتي إليك بالعلوم اللدنية تشاهد فيها أسرارًا ربانية.
قال الورتجبي: كل أمر من الله سبحانه جاء على مخالفة النفس امتحانًا واختبارًا، والنفس كارهة في العبودية فإذا ألزمت عليها حقوق الله بنعت الرياضة والمجاهدة واستقامت في عبودية الله، أول ما يطلع على قلبك أنوار جنان القرب والمشاهدة، قال الله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأوَى} [النازعات: 40، 41]، وفي أجواب ظلام المجاهدة للعارفين شموس المجاهدات وأقمار المكاشفات. اهـ. المراد منه.

.تفسير الآيات (20- 21):

{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}
قلت: {بهتانًا}: حال، أو على إسقاط الخافض.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإن أردتم} أن تبدلوا زوجًا {مكان زوج} أخرى؛ بأن تُطلقوا الأولى وتتزوجوا غيرها، وقد كنتم أعطيتم {إحداهن قنطارًا} أو أقل أو أكثر، {فلا تأخذوا منه شيئًا} بل أدوه لها كاملاً. ثم وبَّخهم على ما كانوا يفعلون في الجاهلية، فقال: {أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا}، أي: مباهتين وآثمين، أو بالبهتان والإثم الظاهر، والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، رُوي أن الرجل كان إذا أراد أن يتزوج امرأة جديدة، بهت التي عنده بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه في تزوج الجديدة، فَنُهُوا عن ذلك.
ثم استعظم ذلك فقال: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} بالمماسة والجماع حتى تقرر الصداق واستحقته بذلك، وقد {أخذن منكم ميثاقاً غليظًا} وهو حسن الصحبة، أو الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، أو تمكينها نفسها منه، فإنها ما مكنته إلا لوفاء العهد في الصداق ودوام العشرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا كان العبد مشتغلاً بجمع دنياه، عاكفًا على حظوظه وهواه، ثم استبدل مكان ذلك الانقطاع إلى مولاه والاشتغال بذكر الله، حتى أفضى إلى شهود أنوار قدسه وسناه، فلا ينبغي أن يرجع إلى شيء خرج عنه لله، ولا يلتفت إلى ما ترك من أمر دنياه، فإن الرجوع في الشيء من شيم اللئام وليس من شأن الكرام، وتأمل ما قاله الشاعر:
إذا انْصَرَفَتْ نفسي عن الشيء لم تكن ** إليه بوجهِ آخرَ الدهرِ تُقبِلُ

وكيف تأخذُ ما خرجت عنه لله، وقد أفضيت إلى شهود أنوار جماله وسُكْنَى حماه، فاتحد عندك كل الوجود، وكل شيء عن عين بصيرتك مفقود، بعد أن أخذ عليك مواثيق العهود، ألا ترجع إلى ما كان يقطعك عن حضرة الشهود، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.